تُفَعِّل بريطانيا هذا اليوم (الأربعاء) المادة الخمسين من معاهدة برشلونة الخاصة بالاتحاد الأوروبي. وبموجبها تبدأ مفاوضات انسحابها من الاتحاد الأوروبي بصورة رسمية بعد أنْ أقَرَّ استفتاء الشعب البريطاني هذا الانسحاب. ويعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمثابة فترة جديدة في تاريخ هذا الاتحاد الذي كان إلى وقت قريب يُعَدُّ من أنجح الكيانات التكاملية الاقتصادية في العالم. وكان كلَّ عام تقريبا يضيف إليه أعضاءً جُدُدًا من دول المنطقة الأوروبية، حتى بلغ عدد أعضائه سبعا وعشرين دولة قبل انسحاب بريطانيا. وكان دخول بريطانيا للاتحاد متلكئا وبإلحاح من الدول الأوروبية. بينما تركيا تقدمت لطلب عضويتها منذ سنوات طويلة ولم تتم الاستجابة لها على الإطلاق.
ومن يعرف العقلية البريطانية وحبّها المتراكم للعظمة منذ أنْ كانت «بريطانيا العظمى»، يستغرب كيف عاشت طوال الأعوام الماضية تحت إمْرَة «بروكسل» مقر المفوضية الأوروبية. ومع أنَّها لم تَتبنَّ «اليورو» وهي العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي، مُبقيَةً على الجنيه الإسترليني عملة للتداول فيها، لم يوفر لها هذا الصنيع أيَّة قناعة باستقلالية قرارها، وبقِيَ انزعاجها من فقدانها للكثير من استقلاليتها وسيادتها على قراراتها المحلية والخارجية، وخاصة السياسية والاقتصادية. ناهيك عن مسائل الهجرة، ونصيبها المالي المرتفع مع الكبار (ألمانيا وفرنسا)، في ميزانيات الاتحاد الأوروبي.
وكل هذا العبء الذي كانت تتحمله بريطانيا «العظمى» كانَ يقابله كمٌّ كبيرٌ من المزايا الاقتصادية والتجارية الناجمة عن انتمائها وبقائها في أحضان الاتحاد الأوروبي. فلا قيود على دخول سلعها وخدماتها ورؤوس الأموال فيها إلى كلَّ دولة عضو في الاتحاد، في إطار الاندماج الاقتصادي وتجاوز الاتحاد الأوروبي مرحلة السوق المشتركة إلى الاتحاد الاقتصادي والسياسي الكامل.
ومع بداية التفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح حقيقة فشلت معها كل محاولات القادة الأوروبيين وغير الأوروبيين لِثنيها عنه، ووضعهم مختلف العراقيل وتدخلهم السافر في الشؤون الداخلية وتكوين مجموعات ضغط لجعل كلمة البرلمان البريطاني هي الفاصلة في مسألة الخروج من عدمه، إلاّ ان كل هذه الجهود والمناورات قد باءت بالفشل، بل قد أثَّرَتْ سلبًا على الشعب البريطاني، سواء في مرحلة الاستفتاء أو مناورات ما بعد الاستفتاء. وأصبح الخروج حقيقة، وها نحن أمام بداية فصوله الحقيقية، حيث تمثل فترة مفاوضات الخروج البريطاني أطول الفترات وأكثرها مشقة وصعوبة.
والخطورة التي يخشاها الاتحاد الأوروبي تتمثل في إمكانية حصول ما يعرف بـ«تأثير الدومينو»، الذي قد يُؤدِّي إلى تَفَكُّك الاتحاد الأوروبي بالكامل. وفي ذلك الصدد حذّر رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك -بمناسبة الذكرى السنوية السِّتين لتأسيس الاتحاد- من أنَّ الاتحاد الأوروبي يمكن أن ينهار تماما بعد خروج بريطانيا منه. ويتزايد هذا التخوف مع تعالي الأصوات التي تنادي بالانفصال، وخاصّة في الدول الرئيسية، وهي فرنسا وهولندا، بل حتى ألمانيا.
وتكلفة خروج بريطانيا المباشرة من الاتحاد تصل إلى ثمانية وخمسين بليون يورو (اثنان وستون بليون دولار)، كما حدَّدَتْها المفوضية. أمَّا التكلفة غير المباشرة الناجمة عن هذا الخروج فهي أكبر بكثير، ومنها ما قد حدث من انخفاضٍ حادٍّ للجنيه الإسترليني، وهو وإنْ أخذ في التَّماسُك بعض الشيء في مرحلة لاحقة، إلَّا أنَّ تذبذباته ستستمر في الفترة القادمة. وهنالك توقعات بأنْ يخسر (10%) إضافية من قيمته أمام العملات الرئيسية في فترة التفاوض على الخروج خاصة، إذا اتَّسمتْ هذه الفترة بالصعوبة وهو أمر متوقع حدوثه جدًا.
وجميع الدول التي تفكر في الخروج من الاتحاد الأوروبي لاحقًا، ستراقب مفاوضات خروج بريطانيا، فكلَّما جاءتْ المفاوضات صعبة، وقلَّ حجم المزايا الممنوحة لبريطانيا، وعدم الاتفاق على بقاء عضويتها في السوق المشتركة، كلَّما أدَّى ذلك إلى أنْ يُعيد الآخرون التفكير مراتٍ ومرَّات قبل أنْ يُقدِموا على أيِّ طلب للانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
والمستشارة الألمانية حذرت وتحذر على الدوام من أنَّ التفاوض البريطاني على الخروج لا يعني على الإطلاق ما أسمته بـ«CHERRY PICKS»، أيْ لا يعني أنَّ لِبريطانيا الحق في أنْ تختار ما يعجبها في الاتحاد الأوروبي ويخدم مصالحها، وتترك ما لا يعجبها.
والضرر الأكبر سيأتي من هجرة العديد من المؤسسات المالية والتجارية التي كانت تستفيد من وجودها في بريطانيا مُتَّخِذةً من حي المال بلندن مركزا رئيسيّا لها، في الوقت الذي تستفيد فيه بالكامل من مزايا تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وحَسَبَ آخر إحصائية، فإنَّه نتيجةً للهجرة المتوقعة للعديد من المؤسسات من بريطانيا، يُتوقَّعُ تَبَخُّر أكثر من سبعين ألف وظيفة في حي سوق المال وحده، وذلك رقم ضخم قياسًا بالحجم الكُلِّيِّ لعدد المشتغلين به. كما أنَّ بريطانيا ستُضطرُّ إلى أنْ تُعدِّل ما لا يقل عن عشرين ألف قانونٍ محليٍّ. والوضع سيكون أسوأ إذا تعقَّدتْ مفاوضات الخروج بدرجة لا تسمح لبريطانيا ولو بالانضمام للسوق المشتركة؛ إذْ إنَّ الهجرة منها في تلك الحالة ستكون أكثر عددًا وإيلامًا.
وختاما، فإنَّ خروج بريطانيا وإنْ كانت له فاتورته الكبيرة في الأمد القصير، إلّا أنَّ اقتصادها قادر على استيعاب الصدمة والتأقلم معها، ثُمَّ النهوض من جديد. وهي فرصة للمستثمرين العالميين للاستفادة من الفرص الاستثمارية الأرخص نتيجة انخفاض الطلب عليها، وانخفاض أسعارها تدريجيًّا، مع الاستفادة من مزيد من الانخفاض في سعر صرف الجنيه الإسترليني.
* مستشار اقتصادي ونفطي
ومن يعرف العقلية البريطانية وحبّها المتراكم للعظمة منذ أنْ كانت «بريطانيا العظمى»، يستغرب كيف عاشت طوال الأعوام الماضية تحت إمْرَة «بروكسل» مقر المفوضية الأوروبية. ومع أنَّها لم تَتبنَّ «اليورو» وهي العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي، مُبقيَةً على الجنيه الإسترليني عملة للتداول فيها، لم يوفر لها هذا الصنيع أيَّة قناعة باستقلالية قرارها، وبقِيَ انزعاجها من فقدانها للكثير من استقلاليتها وسيادتها على قراراتها المحلية والخارجية، وخاصة السياسية والاقتصادية. ناهيك عن مسائل الهجرة، ونصيبها المالي المرتفع مع الكبار (ألمانيا وفرنسا)، في ميزانيات الاتحاد الأوروبي.
وكل هذا العبء الذي كانت تتحمله بريطانيا «العظمى» كانَ يقابله كمٌّ كبيرٌ من المزايا الاقتصادية والتجارية الناجمة عن انتمائها وبقائها في أحضان الاتحاد الأوروبي. فلا قيود على دخول سلعها وخدماتها ورؤوس الأموال فيها إلى كلَّ دولة عضو في الاتحاد، في إطار الاندماج الاقتصادي وتجاوز الاتحاد الأوروبي مرحلة السوق المشتركة إلى الاتحاد الاقتصادي والسياسي الكامل.
ومع بداية التفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح حقيقة فشلت معها كل محاولات القادة الأوروبيين وغير الأوروبيين لِثنيها عنه، ووضعهم مختلف العراقيل وتدخلهم السافر في الشؤون الداخلية وتكوين مجموعات ضغط لجعل كلمة البرلمان البريطاني هي الفاصلة في مسألة الخروج من عدمه، إلاّ ان كل هذه الجهود والمناورات قد باءت بالفشل، بل قد أثَّرَتْ سلبًا على الشعب البريطاني، سواء في مرحلة الاستفتاء أو مناورات ما بعد الاستفتاء. وأصبح الخروج حقيقة، وها نحن أمام بداية فصوله الحقيقية، حيث تمثل فترة مفاوضات الخروج البريطاني أطول الفترات وأكثرها مشقة وصعوبة.
والخطورة التي يخشاها الاتحاد الأوروبي تتمثل في إمكانية حصول ما يعرف بـ«تأثير الدومينو»، الذي قد يُؤدِّي إلى تَفَكُّك الاتحاد الأوروبي بالكامل. وفي ذلك الصدد حذّر رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك -بمناسبة الذكرى السنوية السِّتين لتأسيس الاتحاد- من أنَّ الاتحاد الأوروبي يمكن أن ينهار تماما بعد خروج بريطانيا منه. ويتزايد هذا التخوف مع تعالي الأصوات التي تنادي بالانفصال، وخاصّة في الدول الرئيسية، وهي فرنسا وهولندا، بل حتى ألمانيا.
وتكلفة خروج بريطانيا المباشرة من الاتحاد تصل إلى ثمانية وخمسين بليون يورو (اثنان وستون بليون دولار)، كما حدَّدَتْها المفوضية. أمَّا التكلفة غير المباشرة الناجمة عن هذا الخروج فهي أكبر بكثير، ومنها ما قد حدث من انخفاضٍ حادٍّ للجنيه الإسترليني، وهو وإنْ أخذ في التَّماسُك بعض الشيء في مرحلة لاحقة، إلَّا أنَّ تذبذباته ستستمر في الفترة القادمة. وهنالك توقعات بأنْ يخسر (10%) إضافية من قيمته أمام العملات الرئيسية في فترة التفاوض على الخروج خاصة، إذا اتَّسمتْ هذه الفترة بالصعوبة وهو أمر متوقع حدوثه جدًا.
وجميع الدول التي تفكر في الخروج من الاتحاد الأوروبي لاحقًا، ستراقب مفاوضات خروج بريطانيا، فكلَّما جاءتْ المفاوضات صعبة، وقلَّ حجم المزايا الممنوحة لبريطانيا، وعدم الاتفاق على بقاء عضويتها في السوق المشتركة، كلَّما أدَّى ذلك إلى أنْ يُعيد الآخرون التفكير مراتٍ ومرَّات قبل أنْ يُقدِموا على أيِّ طلب للانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
والمستشارة الألمانية حذرت وتحذر على الدوام من أنَّ التفاوض البريطاني على الخروج لا يعني على الإطلاق ما أسمته بـ«CHERRY PICKS»، أيْ لا يعني أنَّ لِبريطانيا الحق في أنْ تختار ما يعجبها في الاتحاد الأوروبي ويخدم مصالحها، وتترك ما لا يعجبها.
والضرر الأكبر سيأتي من هجرة العديد من المؤسسات المالية والتجارية التي كانت تستفيد من وجودها في بريطانيا مُتَّخِذةً من حي المال بلندن مركزا رئيسيّا لها، في الوقت الذي تستفيد فيه بالكامل من مزايا تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وحَسَبَ آخر إحصائية، فإنَّه نتيجةً للهجرة المتوقعة للعديد من المؤسسات من بريطانيا، يُتوقَّعُ تَبَخُّر أكثر من سبعين ألف وظيفة في حي سوق المال وحده، وذلك رقم ضخم قياسًا بالحجم الكُلِّيِّ لعدد المشتغلين به. كما أنَّ بريطانيا ستُضطرُّ إلى أنْ تُعدِّل ما لا يقل عن عشرين ألف قانونٍ محليٍّ. والوضع سيكون أسوأ إذا تعقَّدتْ مفاوضات الخروج بدرجة لا تسمح لبريطانيا ولو بالانضمام للسوق المشتركة؛ إذْ إنَّ الهجرة منها في تلك الحالة ستكون أكثر عددًا وإيلامًا.
وختاما، فإنَّ خروج بريطانيا وإنْ كانت له فاتورته الكبيرة في الأمد القصير، إلّا أنَّ اقتصادها قادر على استيعاب الصدمة والتأقلم معها، ثُمَّ النهوض من جديد. وهي فرصة للمستثمرين العالميين للاستفادة من الفرص الاستثمارية الأرخص نتيجة انخفاض الطلب عليها، وانخفاض أسعارها تدريجيًّا، مع الاستفادة من مزيد من الانخفاض في سعر صرف الجنيه الإسترليني.
* مستشار اقتصادي ونفطي